قصيدة ما كل ما يتمنى المرء يدركه ابو الطيب المتنبي


 


أبو الطيب المتنبي، ذلك الشاعر الفذ الذي خلدت أعماله عبر العصور، هو تجسيد حي للعظمة والطموح في الشعر العربي. ولد في الكوفة عام 915 ميلادي، وسرعان ما برز كأحد أعظم شعراء العربية، حيث كانت أشعاره تعبر عن تجارب الإنسان وعواطفه بطرق لم يسبقه إليها أحد. كان المتنبي يعيش في زمن مليء بالتحديات، ورغم ذلك استطاع أن يصنع لنفسه مكانة رفيعة عبر قصائده التي لم تكن مجرد تعبير عن مشاعره، بل عن فلسفته في الحياة وقيمه الشخصية.


قصيدته ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجسد جانبًا من هذه الفلسفة، حيث تبرز جمالية الشعر العربي وقدرته على نقل التجارب الإنسانية بوضوح وجمال. هذه القصيدة ليست مجرد كلمات موزونة وقافية، بل هي تعبير عميق عن حقيقة الطموح وتحديات الحياة.


أبيات قصيدة ما كل ما يتمنى المرء يدركه


ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ


يُقالُ: "سَلاَّةٌ" ويُقالُ: "فُتَّ"

من الطعنِ المورِدِ في البحرِ تَرْكُهُ


وما كل ما يستعجل المرء يلقاه

فتجدُ قُدراتٌ ترافقُ الفقرُ


وما من مُتْرَفٍ يُحْسَبُ فقيرًا

وما بينَ إحدادٍ وبينَ تحمّلٍ


يقولُ: "بِطَيْبِ العِشْتِ" لستُ بحامدٍ

في حَيَاتِهِ الصَّخْرَةِ عَذُبَةٌ


ولا كلُّ من حُرِّقَ شَعْبَةً

على أَرْضِهِ لا تَرْحَلُ فيهِ قَاطِعُ


سبب إلقاء قصيدة ما كل ما يتمنى المرء يدركه


قصيدة "ما كل ما يتمنى المرء يدركه" تأتي في سياق حياة المتنبي المعقدة والصعبة. المتنبي كان يعاني من خيبات أمل متكررة في حياته الشخصية والمهنية، حيث كان يسعى لتحقيق طموحات كبيرة لكن غالبًا ما كانت تواجهه صعوبات وعقبات. تعكس القصيدة هذا الإحساس بالإحباط والخيبة، وتؤكد على حقيقة أن الطموحات والأماني ليست دائمًا مضمونة التحقيق. القصيدة تعبر عن تأملات المتنبي في معاني النجاح والفشل، وتجعل القارئ يتفكر في واقع الحياة وكيف أن الأحلام قد تواجهها التحديات.


شرح قصيدة ما كل ما يتمنى المرء يدركه


البيت الأول:


"ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ"


في هذا البيت، يوضح المتنبي أن الأماني والطموحات ليست دائمًا قابلة للتحقيق. استخدامه لتشبيه الرياح بالسفن يعكس فكرة أن الظروف قد تكون معاكسة لما نتمناه، وأننا لا يمكننا دائمًا التحكم في الأحداث التي تؤثر على تحقيق أهدافنا. الرياح، التي تجري بشكل غير متوقع، تمثل القوى الخارجية التي قد تعرقل مساعينا وتمنعنا من الوصول إلى ما نطمح إليه.


البيت الثاني:


"يُقالُ: 'سَلاَّةٌ' ويُقالُ: 'فُتَّ'

من الطعنِ المورِدِ في البحرِ تَرْكُهُ"


في هذا البيت، يشير المتنبي إلى التناقض بين الأقوال والأفعال. يوضح أن الشخص الذي يتحدث بجرأة وشجاعة قد لا يحقق دائمًا النتائج التي يتوقعها، حيث قد تكون أفعاله غير فعالة أو حتى مضللة. الطعن الذي يورث في البحر ويترك أثرًا يعبر عن عدم اليقين في النوايا والنتائج، ويبرز كيف أن الجهود قد لا تؤدي دائمًا إلى النتائج المرجوة.


البيت الثالث:


"وما كل ما يستعجل المرء يلقاه

فتجدُ قُدراتٌ ترافقُ الفقرُ"


هنا، يتحدث المتنبي عن الاستعجال في تحقيق الطموحات، مشيرًا إلى أن السرعة في الوصول إلى الأهداف ليست ضمانًا للنجاح. يشير إلى أن القدرات التي يمتلكها الشخص قد لا تكون كافية لتحقيق طموحاته، مما يؤدي إلى شعور بالإحباط والفقر. هذا البيت يبرز أن النجاح يتطلب وقتًا وجهدًا وتوازنًا، وليس مجرد استعجال.


البيت الرابع:


"وما من مُتْرَفٍ يُحْسَبُ فقيرًا

وما بينَ إحدادٍ وبينَ تحمّلٍ"


في هذا البيت، يعبر المتنبي عن التناقض بين الرفاهية والفقر. حتى وإن كان الشخص يعيش في حالة من الرفاهية، قد يظن البعض أنه فقير في بعض الأحيان، وهذا يشير إلى أن الحالة الاجتماعية ليست دائمًا تعكس الحقيقة الكاملة. المتنبي يسلط الضوء على التناقض بين الظاهر والباطن، ويشير إلى أن الرفاهية ليست دائمًا دلالة على النجاح الحقيقي.


البيت الخامس:


"يقولُ: 'بِطَيْبِ العِشْتِ' لستُ بحامدٍ

في حَيَاتِهِ الصَّخْرَةِ عَذُبَةٌ"


هنا، المتنبي يتحدث عن كيفية تظاهر الناس بالرضا والراحة بينما يواجهون صعوبات وتحديات كبيرة في حياتهم. يشير إلى أن ما يبدو مريحًا وسعيدًا قد يكون في الحقيقة مجرد قناع يخفي الواقع القاسي. الحياة قد تكون صعبة رغم المظاهر، والرضا الخارجي قد يكون بعيدًا عن الحقيقة.


البيت السادس:


"ولا كلُّ من حُرِّقَ شَعْبَةً

على أَرْضِهِ لا تَرْحَلُ فيهِ قَاطِعُ"


في هذا البيت، يشير المتنبي إلى أن الأشخاص الذين يواجهون التحديات قد لا يكونون قادرين على التكيف معها أو التغلب عليها بسهولة. حتى عندما تواجه المصاعب، قد لا تجد حلاً سريعًا أو طريقًا واضحًا للخروج من المشكلة. الحياة مليئة بالتحديات التي قد تتطلب تغييرات وصبرًا طويلًا للتغلب عليها.


تأثير قصيدة ما كل ما يتمنى المرء يدركه على الأدب العربي


قصيدة "ما كل ما يتمنى المرء يدركه" لها تأثير كبير على الأدب العربي، حيث تمثل تجسيدًا للفلسفة الحياتية التي يرى فيها المتنبي أن الأماني ليست دائمًا قابلة للتحقيق. القصيدة تعكس تجربة شخصية عميقة وتفكيرًا فلسفيًا في مسألة الطموح والواقع، وقدرتها على التأثير على القارئ تجعلها واحدة من أبرز الأعمال الشعرية في الأدب العربي.


المتنبي استطاع من خلال هذه القصيدة أن يعبّر عن معاناة الإنسان والتحديات التي يواجهها في سعيه لتحقيق طموحاته. القصيدة تقدم نصيحة قيمة حول كيفية التعامل مع خيبات الأمل والتحديات، وتعلم القارئ أن الحياة ليست دائمًا كما نرغب، وأن الاستعداد لمواجهة الواقع هو جزء من النجاح الحقيقي.


خاتمة


قصيدة "ما كل ما يتمنى المرء يدركه" تعبر عن فلسفة المتنبي في التعامل مع الطموحات والواقع. من خلال أبياتها الرائعة وتفاصيلها العميقة، يسلط المتنبي الضوء على حقيقة أن الأماني ليست دائمًا مضمونة التحقيق، وأن الحياة قد تفرض علينا تحديات وصعوبات. القصيدة تقدم درسًا حول كيفية التعامل مع التحديات والخيبات، وتؤكد على أهمية الواقعية والتوازن بين الطموحات والواقع. عبر هذه القصيدة، يعكس المتنبي حكمته العميقة في فهم الحياة وكيفية مواجهتها بقوة وعزيمة 

تعليقات