أبو الطيب المتنبي، الشاعر العربي العظيم الذي ذاع صيته في أرجاء العالم العربي بفضل شعره الذي يجمع بين الحكمة، الفصاحة، والبلاغة. وُلد في الكوفة عام 915م في فترة كانت مليئة بالتغيرات السياسية والاجتماعية التي ألهمته وشكّلت الكثير من مواقفه الفكرية والشعرية. عاش حياة مليئة بالأسفار والتنقل بين قصور الأمراء والملوك، مدحهم وأحيانًا هجى بعضهم، لكنه دائمًا ما كان يضع بصمته الخاصة في كل ما يكتبه.
المتنبي كان يتميز بفلسفته الخاصة تجاه الحياة، فهو شاعر التحدي والقوة، شاعر الحكمة والكرامة، الذي لا يرى في الدنيا شيئًا يستحق الاهتمام إلا المجد والعظمة. كان المتنبي يعبر عن ذاته وطموحاته في قصائده، حيث يُظهر نفسه كشخصٍ يسعى دومًا إلى العلى ويرفض الرضوخ للظروف الصعبة.
نص القصيدة "ما بالُ كُحلِكِ يصحو مثلما سكر"
من قصائد المتنبي العاطفية التي يظهر فيها براعته في التعامل مع الأحاسيس والمشاعر الإنسانية. هذه الأبيات تعكس تأملاته في الجمال والأنوثة، وفي نفس الوقت تحمل معاني فلسفية عميقة عن التناقضات التي تجمع بين الجمال والضعف.
ما بالُ كُحلِكِ يَصحو مثلما سَكِرَ
فِي الحُسنِ وان طالَ هذا السّقمُ فاعتَذِرِ
أمِن حَديدٍ عَصيتِ الرّفقَ أم خَشَبٍ
ما كانَ قَبلَكِ إلا النّارَ والحَجرِ
لَا يَفضَحُ المَرءَ إلا فَقدُ عَزمَتِهِ
ولا يُرى ذُلُّهُ حَتّى يَرى أثَرِ
سبب إلقاء المتنبي للقصيدة
القصيدة جاءت في سياق شعور المتنبي بالجمال الأنثوي الذي يفوق التصور. في هذه الأبيات، يعبر المتنبي عن دهشته من جمال المحبوبة التي تبدو كأنها قد تمردت على القوانين الطبيعية. لا يعبر المتنبي هنا عن حب فقط، بل عن حالة فلسفية يتأمل فيها جمال المحبوبة وتناقضاتها.
يعود سبب إلقاء المتنبي لهذه القصيدة إلى تجربة شخصية تأمل فيها الجمال والقوة معًا، وكيف يمكن لجمال المرأة أن يكون مصدر ضعف وقوة في آنٍ واحد. كان المتنبي يرى أن الجمال هو توازن بين الحسن والدهاء، وبين الرقة والصلابة.
شرح قصيدة ما بالُ كُحلِكِ يَصحو مثلما سَكِرَ
البيت الأول:
"ما بالُ كُحلِكِ يَصحو مثلما سَكِرَ"
في هذا البيت، يتساءل المتنبي عن سبب سحر الكحل الذي وضعته المحبوبة. يشبه المتنبي هنا تأثير الكحل على العين بحالة من السكر والصحو معًا. الكحل هو رمز للجمال العربي الأصيل، وعندما يقارنه بحالة السكر، فإنه يشير إلى كيف يمكن للجمال أن يكون مخدرًا ولكنه أيضًا يوقظ الحواس ويبعث الحيوية.
البيت الثاني:
"فِي الحُسنِ وان طالَ هذا السّقمُ فاعتَذِرِ"
يتابع المتنبي في هذا البيت وصفه للجمال، مشيرًا إلى أن الجمال قد يتحول إلى سقم أو مرض مع مرور الوقت، لكنه يطلب من المحبوبة أن تعتذر عن هذا التأثير. هنا نرى مزيجًا من الإعجاب والتعبير عن الألم الذي قد تسببه هذه الفتنة الساحرة. الجمال قد يكون مصدر راحة وسعادة، لكنه أيضًا قد يؤدي إلى معاناة، وكأن المتنبي يريد القول إن الجمال ليس دائمًا نعمة.
البيت الثالث:
"أمِن حَديدٍ عَصيتِ الرّفقَ أم خَشَبٍ"
هنا يطرح المتنبي سؤالًا للمحبوبة، مشيرًا إلى قوتها الداخلية، ويتساءل ما إذا كانت من حديد أو خشب، في إشارة إلى صلابتها في مواجهة المشاعر. يظهر المتنبي دهشته من قدرتها على التعامل مع مشاعر الحب والجمال بالقوة والصلابة، وكأنه يشير إلى تناقض الجمال مع القوة.
البيت الرابع:
"ما كانَ قَبلَكِ إلا النّارَ والحَجرِ"
يواصل المتنبي في هذا البيت استكشافه للجمال، مشيرًا إلى أن ما كان قبل ظهور جمال المحبوبة كان مجرد نار وحجر، في إشارة إلى الحياة القاسية والبليدة التي كانت موجودة قبل أن يأتي هذا الجمال ليبعث الحياة. هنا نرى كيف يعتبر المتنبي الجمال عنصرًا حيويًا يحول الحياة من شيء جامد إلى شيء مليء بالحرارة والحيوية.
البيت الخامس:
"لَا يَفضَحُ المَرءَ إلا فَقدُ عَزمَتِهِ"
في هذا البيت، يغير المتنبي قليلاً من موضوعه، مشيرًا إلى أن الإنسان لا يفضحه شيء سوى فقدانه لعزيمته. يظهر هذا البيت فلسفة المتنبي في الحياة، حيث يرى أن الإرادة والعزم هما ما يحدد قوة الإنسان. الجمال قد يكون مدهشًا وساحرًا، لكن القوة الحقيقية تكمن في الإرادة والعزيمة.
البيت السادس:
"ولا يُرى ذُلُّهُ حَتّى يَرى أثَرِ"
في الختام، يشير المتنبي إلى أن ذل الإنسان لا يظهر حتى يترك أثره. بمعنى آخر، لا يتم قياس ضعف الإنسان أو ذله إلا عندما يظهر تأثير ذلك على حياته وسلوكه. يرى المتنبي هنا أن الإنسان يمكن أن يحافظ على كرامته وقوته طالما أنه لا يظهر ضعفًا أو تأثيرًا واضحًا للآخرين.
فلسفة المتنبي في الجمال والقوة
من خلال هذه القصيدة، يمكننا استنتاج أن المتنبي يرى في الجمال قوة خفية تتجاوز المعاني السطحية. بالنسبة له، الجمال ليس مجرد مظهر خارجي، بل هو قوة داخلية تعبر عن توازن بين الرقة والصلابة، بين اللطف والقوة. ويبدو أن المتنبي كان يرى أن الجمال الحقيقي يكمن في هذا التناقض الذي يجمع بين الضعف والقوة.
الجمال في نظر المتنبي ليس شيئًا بسيطًا، بل هو تجربة معقدة تحمل في طياتها العديد من المشاعر المتناقضة. الجمال قد يكون مصدر سعادة وفرح، ولكنه أيضًا قد يكون مصدر ألم ومعاناة. من هنا، يتضح أن المتنبي كان يعبر عن فهم عميق ومعقد للجمال، يجمع بين الظاهر والباطن، بين ما يراه الإنسان وما يشعر به.
الخاتمة
قصيدة "ما بالُ كُحلِكِ يصحو مثلما سكر" تعكس جزءًا من تأملات المتنبي في الحياة والجمال. من خلال هذه الأبيات، يقدم المتنبي فلسفة عميقة حول التناقضات التي يحملها الجمال، وكيف يمكن أن يكون مصدرًا للقوة والضعف في الوقت نفسه. القصيدة تعكس أيضًا رؤية المتنبي للعزيمة والإرادة كقيمة أساسية في الحياة، حيث يرى أن القوة الحقيقية تكمن في الصمود والقدرة على الحفاظ على الكرامة مهما كانت التحديات.
لقد استطاع المتنبي في هذه الأبيات أن يجسد حالة من التأمل الفلسفي الذي يمزج بين
الجمال والقوة، ليقدم لنا نصًا شعريًا خالدًا يجمع بين الفن والفكر.