أبو الطيب المتنبي، الشاعر الذي ملك قلوب العرب بلغته الجزلة وحكمته العميقة، يُعدُّ واحدًا من أعظم الشعراء في تاريخ الأدب العربي. بفضل براعته في التصوير الشعري والبلاغة، استطاع المتنبي أن يعبر عن مشاعر وأفكار متعددة، من الفخر والعزيمة إلى الألم والفلسفة الوجودية. شِعره ينهل من تجربة حياة غنية بالمعارك والمغامرات، إضافة إلى حِكم مستخلصة من تجاربه العميقة في بلاط الملوك والأمراء.
قصائده ليست مجرد كلمات، بل هي أداة لفهم فلسفة الحياة التي اعتنقها المتنبي، فهي مزيج من القوة والشجاعة والحكمة، وقدرته على مواجهة التحديات مهما كانت. قصيدة إذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزةً واحدة من تلك القصائد التي تعبر عن فلسفته في الشجاعة والتحذير من التهاون مع الأخطار التي تبدو قريبة.
أبيات قصيدة إذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزةً
إذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزةً
فلا تظنَّن أنَّ الليثَ يبتسمُ
ومُهجةٍ مهجتي من همِّ صاحبها
أدركتها بجوادٍ ظهرُه حَرَمُ
رجلاهُ في الركضِ رِجلٌ واليدانِ يدٌ
وفعلُهُ ما تريدُ الكفُّ والقدمُ
ومرهفٍ سرْتُ بينَ الجحفلينِ بهِ
حتى ضربتُ وموجُ الموتِ يلتطمُ
الخالِداتُ غداً في غيرِ جارحةٍ
لكنَّ أسيافَهم في القلبِ تتسمُ
هل غايةُ الدينِ أن تُحْفوا شواربَكُمْ
يا أمةً ضحكتْ من جهلها الأممُ
سبب إلقاء قصيدة إذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزةً
قصيدة إذا رأيت نيوب الليث بارزة كتبها المتنبي في إطار مدحه لسيف الدولة الحمداني، أحد أعظم القادة العسكريين في التاريخ العربي. كان سيف الدولة يواجه تحديات كبيرة، أبرزها تمرد بعض القبائل وغزو الروم المتكرر. المتنبي، الذي كان مقربًا من سيف الدولة، استخدم شعره لتشجيعه وتحفيزه على المواجهة وعدم التراجع. كما أنه كان يشير بشكل ضمني إلى أهمية الاستعداد للخطر قبل وقوعه وعدم الوقوع في خداع الأعداء.
هذه القصيدة جاءت كتحذير من التهاون في وقت الخطر، حيث يصور المتنبي الأسد كرمز للقوة والجبروت. وعندما تبرز أنيابه، فلا يعني ذلك أنه يبتسم، بل هو تحذير من هجوم محتمل. بهذا المعنى، القصيدة تمثل دعوة للجاهزية الدائمة، سواء في مواجهة العدو أو التعامل مع الحياة بشكل عام.
شرح قصيدة إذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزةً
البيت الأول:
"إذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزةً
فلا تظنَّن أنَّ الليثَ يبتسمُ"
يبدأ المتنبي القصيدة بتحذير واضح؛ الليث (الأسد) الذي يبرز أنيابه ليس في حالة من الود أو المرح. هذا المشهد البصري يرمز إلى القوة الكامنة وراء هذه الأنياب، أي أن إظهار الأنياب هو إشارة إلى خطر محدق وليس علامة على الهدوء أو الاستسلام. يستخدم المتنبي الأسد كاستعارة للعدو أو الخطر الذي يقترب، ويحث على الحذر وعدم الخداع بالمظاهر.
البيت الثاني:
"ومُهجةٍ مهجتي من همِّ صاحبها
أدركتها بجوادٍ ظهرُه حَرَمُ"
في هذا البيت، المتنبي يتحدث عن تجربته في اللحاق بصاحب همومه، مستخدمًا جواده السريع. المهجة هنا تعني الروح أو النفس، ويشير إلى أن هذا الجواد هو الذي ينقذه من همومه ومتاعبه. يظهر هنا تأمل المتنبي في سرعة الحركة والاستجابة، وهي إشارة إلى أن المواجهة السريعة مع التحديات قد تكون السبيل الوحيد للنجاة.
البيت الثالث:
"رجلاهُ في الركضِ رِجلٌ واليدانِ يدٌ
وفعلُهُ ما تريدُ الكفُّ والقدمُ"
هذا البيت يصف جواد المتنبي الذي يركض بكل قوة وسرعة، حيث يبدو كأن له رجلًا واحدة ويدان واحدة في حركته السريعة. يشير الشاعر هنا إلى أهمية التناغم بين الإنسان وأدواته (الجواد في هذه الحالة) في تحقيق الأهداف الكبيرة. الحرفية والقوة تأتي من الإتقان والتناغم، سواء في ساحة المعركة أو في أي موقف آخر.
البيت الرابع:
"ومرهفٍ سرْتُ بينَ الجحفلينِ بهِ
حتى ضربتُ وموجُ الموتِ يلتطمُ"
في هذا البيت، يشير المتنبي إلى سيفه المرهف، الذي استخدمه في المعركة. يصف كيف سار بين صفوف الأعداء بجرأة حتى بلغ الهدف وضرب به، رغم الخطر الشديد الذي كان يحيط به. "موج الموت" هنا يمثل الفوضى والخطر الكبير في ساحة المعركة، ولكن المتنبي يشير إلى قدرته على التحرك والتغلب على الخطر بثبات.
البيت الخامس:
"الخالِداتُ غداً في غيرِ جارحةٍ
لكنَّ أسيافَهم في القلبِ تتسمُ"
في هذا البيت، يتحدث المتنبي عن الأبطال الذين يخلد ذكرهم ليس بسبب جراحهم الجسدية، ولكن بسبب آثارهم العميقة التي تركوها في قلوب الناس. الأبطال الحقيقيون، وفقًا للمتنبي، هم من يتركون أثرًا خالدًا في التاريخ، حتى لو لم يكونوا قد أُصيبوا بجراح في المعارك. الأسياف هنا رمز للقوة والشجاعة التي تترك علامة في النفوس.
البيت السادس:
"هل غايةُ الدينِ أن تُحْفوا شواربَكُمْ
يا أمةً ضحكتْ من جهلها الأممُ"
في هذا البيت ينتقد المتنبي بعض العادات أو الطقوس التي يعتبرها شكلية وغير جوهرية. يتساءل بشكل ساخر: هل الهدف من الدين هو حلق الشوارب فقط؟ يُظهر الشاعر هنا استياءه من ترك الجوهر والتركيز على القشور، ويعبر عن استيائه من حال الأمة التي انشغلت بالتفاهات، في وقتٍ يسخر منها الأعداء والأمم الأخرى بسبب جهلها.
تحليل القصيدة
قصيدة "إذا رأيت نيوب الليث بارزة" هي قصيدة تنطوي على العديد من الرموز والمعاني. في البداية، يستخدم المتنبي الأسد كرمز للخطر الذي يلوح في الأفق، ويحذر من التهاون أو الاستهانة بالأعداء الذين يبدون أنهم هادئون أو مسالمون. فإظهار القوة قد يكون دلالة على التحضير لهجوم وشيك، ويجب على الإنسان أن يكون دائمًا في حالة من الاستعداد.
في الأبيات التالية، يصف المتنبي تجربته في المعارك، مستخدمًا رموزًا مثل الجواد والسيف للتعبير عن السرعة والقوة والتكامل في مواجهة التحديات. الجواد هو وسيلته للنجاة، والسيف هو أداته للانتصار. يتحدث عن شجاعته وقدرته على التحرك بثبات في وجه الموت والخطر، مؤكدًا على أن القوة الحقيقية تأتي من الشجاعة والتنسيق الجيد بين الإنسان وأدواته.
ينتقل المتنبي بعد ذلك إلى الحديث عن الأبطال الذين يخلدون في الذاكرة ليس بسبب جراحهم الجسدية، بل بسبب الشجاعة والأثر الذي يتركونه في النفوس. هذا يبرز فلسفة المتنبي في المجد والشرف، حيث يعتقد أن العظمة لا تأتي من المعارك الجسدية فحسب، بل من الأثر الذي يتركه الإنسان في التاريخ والقلوب.
أخيرًا، يختم المتنبي القصيدة بنقد لاذع للأمة التي تهتم بالشكل على حساب الجوهر. ينتقد العادات السطحية التي أصبحت هدفًا بحد ذاتها، ويعبر عن استيائه من الجهل الذي أصاب الأمة وجعلها موضع سخرية للأمم الأخرى.
فلسفة المتنبي في القصيدة
تعكس هذه القصيدة فلسفة المتنبي في الشجاعة والقوة، وكيف يجب أن يكون الإنسان دائمًا على أهبة الاستعداد لمواجهة التحديات. كما أنها تعبر عن نقده للمظاهر السطحية والتمسك بالشكل على حساب الجوهر. المتنبي هنا يؤكد على أن الشرف الحقيقي يأتي من التحرك بقوة وثبات نحو الأهداف الكبيرة، دون التهاون أو التراجع أمام الخطر.
خاتمة
قصيدة "إذا رأيت نيوب الليث بارزة" للمتنبي تمثل نموذجًا من الشعر العربي الذي يمزج بين الحكمة والشجاعة. المتنبي، الذ
ي عاش في زمن مليء بالصراعات والتحديات، استخدم شعره كأداة للتعبير عن فلسفته في الحياة والموت