قصيدة كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا ابو الطيب المتنبي

 


أبو الطيب المتنبي، واحد من أعظم شعراء العرب عبر العصور، صوته الشعري لم يكن مجرد انعكاسٍ للعواطف الإنسانية فحسب، بل كان صدىً لجلال الفكر والفلسفة والحكمة. عُرِف المتنبي بقوة كلماته، وعمق أفكاره التي تجسد كل مشاعر الحياة، من الحب إلى الحرب، ومن الفرح إلى الألم. كان المتنبي دائمًا يعبر عن نفسه بفخر وكبرياء، مغردًا على إيقاعات العزيمة والشموخ، حتى في أعمق لحظات الحزن والشكوى. قصائده كانت مرآة لروحه الحرة، تلك الروح التي رفضت الاستسلام للمصاعب، وواجهت الحياة بكل تحدياتها بثبات وجسارة.


في قصيدته الشهيرة كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا، نجد المتنبي يغوص في أعماق النفس البشرية، معبرًا عن معاناته وألمه بشكل فلسفي عميق. إنها قصيدة تتحدث عن الحياة والموت، وعن الألم الذي يجعل الإنسان يرى في الموت خلاصًا وشفاءً من معاناته.


أبيات قصيدة كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا


كفى بك داءً أن ترى الموتَ شافياً

وحَسبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا


تمنيتها فلما صِرتَ عندها

تمنيتَ ألا تُعرفَ الموتَ لاقيا


إذا ما تأملتَ الزمانَ وصرفَه

تيقنتَ أن الموتَ ضربٌ من العدمِ


وأن نعيماً في الحياة وراحةً

إذا كان في لذاتِها الموتُ مؤلماً


إذا غامرتَ في شرفٍ مرومٍ

فلا تقنع بما دونَ النجومِ


فطعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ

كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ


سبب إلقاء قصيدة كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا


قصيدة "كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً" نظمها المتنبي في لحظة تأمل عميقة في الحياة والموت، عندما أدرك أن الحياة مليئة بالآلام والمآسي التي قد تجعل الإنسان يتمنى الموت كخلاص من معاناته. هذه القصيدة جاءت بعد تجربة شخصية صعبة مر بها المتنبي، حيث عاش لحظات من الشك واليأس والشعور بالخذلان. كانت هذه التجارب سببًا في ولادة هذه القصيدة التي تعكس تشاؤمه المؤقت من الحياة.


المتنبي كان دائمًا ما يعيش في صراع بين مجده الشخصي ومعاناته الداخلية، وقد تكون هذه القصيدة نتاجًا لهذا الصراع، حيث يرى في الموت، الذي هو عدو الحياة، شفاءً للألم والمعاناة التي يعيشها. ومن هنا، جاءت هذه القصيدة كنوع من التفريغ العاطفي والفلسفي للأفكار التي كانت تراوده.


شرح قصيدة كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا


البيت الأول:


"كفى بك داءً أن ترى الموتَ شافياً

وحَسبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا"


يبدأ المتنبي قصيدته بتصوير حالة من الألم الشديد واليأس العميق، حيث يرى الإنسان في الموت شفاءً من دائه ومعاناته. فمجرد أن يتمنى الإنسان الموت ليكون خلاصه، هذا بحد ذاته يعتبر داءً عظيمًا. هذا البيت يعكس فلسفة المتنبي حول التشاؤم والحزن الذي يطغى على روحه، حيث تكون المنايا (الموت) في بعض الأحيان هي الأمنية التي يتمناها الإنسان ليجد الراحة.


البيت الثاني:


"تمنيتها فلما صِرتَ عندها

تمنيتَ ألا تُعرفَ الموتَ لاقيا"


في هذا البيت، يتحدث المتنبي عن مفارقة نفسية يعيشها الإنسان؛ عندما يتمنى الموت كخلاص، لكنه عندما يقترب منه يدرك أنه لا يريد مواجهته حقًا. هذا البيت يُظهر تعقيدات النفس البشرية التي تعيش بين الرغبة في الخلاص من الألم وبين الخوف من المجهول الذي يمثله الموت. فالموت، رغم كونه نهاية لكل معاناة، إلا أنه يظل أمرًا غامضًا ومخيفًا بالنسبة للإنسان.


البيت الثالث:


"إذا ما تأملتَ الزمانَ وصرفَه

تيقنتَ أن الموتَ ضربٌ من العدمِ"


يُظهر المتنبي هنا تأملًا عميقًا في مفهوم الزمن والموت. يعتقد الشاعر أن التأمل في مرور الزمن وتغيراته يجعله يدرك أن الموت ليس إلا شكلاً من أشكال العدم. الزمن يمضي، وكل شيء في الحياة ينتهي بالموت، وكأن الموت هو العدم الذي ينهي كل شيء. هذه النظرة الفلسفية تعكس رؤية المتنبي للعالم والحياة على أنها زائلة، وأن الموت هو الحقيقة النهائية.


البيت الرابع:


"وأن نعيماً في الحياة وراحةً

إذا كان في لذاتِها الموتُ مؤلماً"


المتنبي هنا يتحدث عن تناقض آخر في الحياة؛ فحتى في أوقات النعيم والراحة، قد يكون هناك ألم مخفي. فاللذات الدنيوية قد تحمل في طياتها شعورًا بالمرارة إذا كان الموت يلوح في الأفق. إنه يعبر عن أن الحياة، رغم كل ما تقدمه من ملذات وراحة، تظل مشوبة بالخوف من النهاية المحتومة. وهذا الشعور يجعل حتى أجمل اللحظات في الحياة تختلط بالحزن.


البيت الخامس والسادس:


"إذا غامرتَ في شرفٍ مرومٍ

فلا تقنع بما دونَ النجومِ

فطعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ

كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ"


هذه الأبيات تمثل قمة الحماسة والعزيمة التي عُرف بها المتنبي. يقول الشاعر هنا إنه إذا قررت المغامرة في سبيل تحقيق شرف أو مجد عظيم، فلا تقنع بأقل من النجوم، أي لا ترضى إلا بالقمم العالية. ويمضي المتنبي ليقول إن الموت في سبيل هدف صغير هو نفسه الموت في سبيل هدف كبير. فالموت هو الموت في نهاية المطاف، سواء كان في سبيل أمر حقير أو أمر عظيم، لذا ينبغي على الإنسان أن يسعى دائمًا لتحقيق الأمور العظيمة حتى ولو كان الثمن هو حياته.


تحليل فلسفي للقصيدة


قصيدة "كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً" تُظهر لنا جانبًا مختلفًا من شخصية المتنبي. ورغم أنه الشاعر الذي عُرِف بالعزيمة والقوة، إلا أنه في هذه القصيدة يعبر عن تأملات عميقة في الموت والحياة، وكأننا نراه في لحظة ضعف أو تشاؤم. يعكس المتنبي في هذه القصيدة فلسفة وجودية تعبر عن صراعه الداخلي بين الإحساس بالعظمة والعزيمة، وبين الحزن والشكوى من قسوة الحياة.


الموت، في هذه القصيدة، ليس مجرد نهاية طبيعية للحياة، بل هو عدو وغامض يترقب الإنسان في كل لحظة. ومع ذلك، يرى المتنبي أن الموت قد يكون شفاءً للخلاص من الآلام. إنه تصوير معقد للنفس البشرية التي تعيش بين الأمل واليأس، وبين الرغبة في الحياة والخوف من الموت.


في الوقت نفسه، تعبر الأبيات الأخيرة عن عودة المتنبي إلى طبيعته التي تمجد العظمة والشرف. إنه يرفض التواضع أو الرضا بالأمور الصغيرة، ويرى أن الإنسان يجب أن يسعى دائمًا إلى تحقيق الأمور العظيمة، حتى وإن كان الموت هو الثمن.


خاتمة


قصيدة "كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً" ليست مجرد قصيدة تشاؤمية عن الموت والحياة، بل هي انعكاس للفلسفة العميقة التي عاشها المتنبي، تلك الفلسفة التي تمزج بين الحزن والعزيمة، وبين الشكوى والفخر. المتنبي، كما يظهر في هذه القصيدة، هو شاعر يتأمل في أسرار الحياة والموت، لكنه في النهاية يختار طريق الشرف والمجد، حتى لو كان الثمن هو الموت.


هذه القصيدة تبقى واحدة من أبرز أعمال المتنبي التي تجسد تأملات

ه العميقة في النفس البشرية، وتجعلنا ندرك مدى عمق أفكاره وفلسفته حول الحياة والموت.


تعليقات